الخميس، 5 سبتمبر 2013


أماني محمد
(2)

           أماني محمد عبد السلام .....

هذا هو اسم طفلة القصة ذات الأحدى عشر عاما و لكن يبدو أنها لم تكن مقتنعة بعمرها لذلك سبقت بذكائها و تصرفاتها عمرها بكثير بعينين واسعتين خضراوين ... بشرة قمحية اللون ... و أخيرا شعر أسود قصير تشكلت ملامحها الجميلة.

لم يسبق لها أن رأت محمد عبد السلام – والدها - في حياتها, قيل لها أنه توفي قبل أن تولد و للغرابة لم تكن له أي صورة لذلك لم تستطع تخيله ... فلم تشعر يوما بالحنين إليه و لم تتمنى يوما أن يكون موجودا .....كأن الحياة ليست لها سنة أن لكل طفل له أب و أم و كأن أمها مريم العذراء.. فلقد خرجت الى الدنيا دون أب .. كما عيسى عليه السلام .

كانت حياة أماني عبارة عن هي و والدتها سارة أحمد فقط ... تسير كل يوم بنفس الوتيرة تقريبا الى أن كانت الحادثة الأخيرة فمنها لم ترى أماني سارة و لا سارة أماني و صار لكل منهما حياة مختلفة التي لم تتعود أماني عليها حتى الآن ... لكنها كانت محظوظة بروز صديقتها الوحيدة في الميتم و التي كانت في نفس عمرها و هي بدورها كانت ربيبة مدام جوليا التي هي امرأة في الاربعين من عمرها  ولكن الزمن أهلكها فتبدوا لمن يراها أنها في الستين, هي أرملة لرجل جيش متقاعد له من الأملاك منزلين و حانة صغيرة فما كان منها بعد أن توفي قبل خمس سنين سوى أن تأجر الحانة و أحد المنزلين و الآخر جعلته ميتم خيري لتكون هي المشرفة عليه. هي امرأة انفعاليه في كل تصرفاتها تتصرف كثيرا من غير تفكير..فلم يمض على فتح الميتم عام حتى بدأت تشتكي من المصاريف التي تصرفها فيه من أجل ..من أجل التصليحات و رواتب المربيات و الأساتذة في الميتم ..و لكنها أيضا تتميز بالاخلاصها لكل شيء يخصها ..لوطنها ..دينها ..زوجها فقد قيل أن العديد طلبوا يدها بعد وفاة زوجها –إن كان من أجلها هي أو من أجل أموالها- و لكنها رفضت وفضلت أن تعيش أرملة طيلة حياتها ..كما أن هناك بعض الاشاعات نصها أن انشائها للميتم إنما كان رغبة من زوجها ..فقد كان سمعه أحدهم يقول أن أفضل شيء يقوم به أحدهم في هذه الحياة هو تربية الأيتام الذين حرمتهم الدنيا من أفضل شيء فيها من غير ذنب. و كجزء من إخلاص مدام جوليا لزوجه و أثناء فجيعتها لموته كانت أول فكرة تخطر ببالها هي أن تحقق أمنية من أمنيات زوجها العابرة التي لم يستطع تحقيقها و هو حي و لكن بدون أن تدرك التكاليف المتبوعة لهذه الأمنية.

*              *              *                   *

توالت الأيام على أماني منذ أن فارقت أمها وأصبح رأس اسنة يقترب رويدا ... رويدا منها وهي لا يمر يوم دون أن تتذكرها و تزداد شوق لها أو على أن تعرف أي خبر عنها . في بادئ الأمر كانت تراقب أي كلمة تخرج من فم مدام جوليا لكن دون فائدة ... لم تكن سيرة لأمها تتراود أثناء حديثها و حتى عندما تكن ..تكون سب لأمها..... و لها....  لدينها.... لوطنها الأصلي أو لكل شيء يتعلق بهم كأنهم بؤرة السواد والشر و لا يأتي منهم خيرا أبدا, لذا قررت الكف عن ذلك و انعزلت هي وشعورها بالوحدة .                   

          أتى رأس السنة ..فرح به الجميع الكبير قبل صغير ... أقصد فرح به الجميع عدا أماني التي لم يؤثر بها شيء من الزينة التي تناثرت هنا وهناك .. أو حتى هدايا المحسنين فقد كان الأطفال يتخطفها من بعضهم , بل كان في كل هذا زيادة لأحزان أماني فلقد شق عليها أن تحتفل بعيدا عن أمها التي لا تعرف عنها شيئا .

كانت أماني في ذلك اليوم تشعر بفراغ كبير لذلك لم ترح نفسها من التفكير المستمر عن أمها "كيف هي الآن؟......كيف تشعر؟ ........هل حوكمت؟ ......هل ستسجن ؟ ..... لفترة طويلة أم قصيرة ؟......" و بين كل فترة و فترة تلوح في ذهنها أفكار مشئومة ..قد يحكموا عليها بالإعدام !... فتبدأ بالارتجاف .....و تزداد ضربات قلبها..... ثم أخيرا تهدئ من روعها  .......لن يحدث شيء من هذا ....اذا حدث لكانت علمت بالأمر ....أمها بريئة  و الرب لن يرضى لها بالظلم ....الله العادل..الرحمن ..الرحيم ,ثم قطبت جبينها أخيرا و همست :

-         لكنه يأخذ بالأسباب    

-         أماني ..أماني .. هيا معنا شاركينا في تزيين الحديقة.

    شعرت أماني  كأن أحد أفاقها من نومها و عندما التفتت الى مصدر الصوت وجدتها روز ..و من سيكون غيرها !؟ , لم تكن لأماني رغبة في قطع حبال أفكارها لذلك كان ردها :

-         لا أريد ..أخرجي بدوني روز

لكن لم يبد على عينا روز الزرقاوين الاستسلام لذلك واصلت في إصرار وعناد :

-         لما لا ؟ .. لم تخرجي منذ مدة .. ستستمتعين صدقيني

-         أرجوك .. روز ليست لدي رغبة في الخروج . قالت أماني في توسل ثم التفتت عنها اعتبارا منها أن الأمر حسم .. لكن لم يكن لها ذلك فلقد تحركت روز لتواجهها من جديد و قالت :

-         أرجوك أنت.. على الأقل أخرجي دون أن تفعلي أي شيء إنها لا تثلج اليوم .

 شعرت أماني بالسخط في دواخلها ..لماذا هي عنيده هكذا ؟.. لكن في النهاية اعترفت بالهزيمة فلقد اكتشفت أنها نسيت ما كانت تفكر فيه. لكن عند خروجها لم تندم على الإطلاق, لم يكن الجو في الخارج دافئا بمعنى الدفء ..و لكن بالمقارنة بتيار الثلوج و الصقيع السابقة له فلقد كان يوما مثيرا للراحة. جلست أماني في الزاوية التي اعتادت هي و روز أن يجلسا فيها حتى أن الأطفال كان يسمون ذلك المكان باسميهما و لم يكن أحد يقترب منه ..ليس خوفا .. ولكن احتراما للملكية الشخصيه .. فلقد أصبح ذلك المكان كأنه ملك لهما .منذ أول لحظة من خروج أماني قررت ألا تشارك في شيء في التزيين و أن تحاول أن تستجمع أفكارها و تحاول ان تتذكر بماذا كانت تفكر ..فلقد شعرت كأنها كانت على مقربة من الوصول الى مخرج النور في كهف مظلم في تلك اللحظة  إلى أن أتت روز و قاطعتها ..لكنها الآن لا تشعر بالسخط منها ..فقد قدرت أن نسمات الهواء الباردة التي لفحت بوجهها بنعومة أشعرت فيها إحساس أنها كانت محبوسة في صندوق كاتم قد تساعدها في صفاء ذهنها. و أخيرا ..عقدت أماني يديها ..و اتجهت بعينيها أمامها من يراها يخالها تراقب بتركيز شيئا معينا لكنها في الحقيقة كانت تنظر إلى الّا شيء ..و فجأة:

-         في مثل هذا اليوم قبل عدة أعوام. هكذا قالت روز لأماني بدون أي مقدمات لذلك كانت الأخيرة فاقدة التركيز فلم تفهم مما سمعت شيء سوى أن من قاله كانت روز ..لذلك ردت:

-         ماذا قلت؟ لم أسمعك؟

-         قلت لك في ..مثل هذا اليوم قبل عدة أعوام دخلت طفله لها ثلاثة أعوام ضائعة من أهلها الى هذا الميتم لكي تلعب مع الأطفال الموجودين فيه.. تآلفت مع الأطفال و تآلفوا عليها فلم يلاحظ أحد أنها ليست من هنا ..حتى السيدة جوليا ظنتها أحد اليتامى الموجودين

إلى أن أتى صباح اليوم التالي لاحظت مدام جوليا ان هذه الطفله لا تنتمي إلى الميتم ..سألتها عن أسرتها و لكن بدون فائدة فلقد  كانت صغيره جدا, فبحثت عن أسرتها  وعندما لم تستطع إيجادهم تبنتها السيدة جوليا.

 كانت أماني تستمع لها بإنصات لكن دون أن تلتفت إليها و لكن عندما سمعت الجملة الأخيرة انتفضت وهي تقول :

-         هذه أنت!

-         نعم هذه أنا. ردت روز بعد أن تفاجأت في بادئ الأمر من انتفاضه أماني .

-         هل تتذكرين هذا ؟

-         للأسف لا . قالت روز في حسرة.

لقد كانت أماني تشعر بالمفاجأة ..اجل لقد كانت تعلم أن روز ابنة السيدة جوليا بالتبني ..فقد كان هذا معروفا, حتى أن صديقات السيدة جوليا كنّ يقلنّ أن مدام جوليا اتخذت أجمل أطفال ميتمها إبنة في حين أنها لو عاشت عمرها كله تصلي بأن توهب بطفل جميل لن يكون بروعة روز و من ذلك أتت التسمية روز –ورده - فهي مقارنة بكل الأطفال الذين حولها كأنها وردة في وسط العشب, ولكن الحكاية الأصليه لها لم تكن مشهورة حقا ..هذا إذا كانت معروفة من الأساس ..حاولت أماني وضع نفسها مكانها ..فشعرت بالغربة والحزن و الغضب من والداها اللذان فعلا ذلك لتمر كل هذه السنين و هي تظن أنها من غير أهل ..لكن لا يبدو على روز بأنها تشعر بأي شيء :

-         و كيف شعورك؟ سألت أماني روز

-         لقد كانت مفاجأة لكنها لم تكن سارة على حسب ظني ..فلقد تعودت على حياتي و لم أكن أريد أن أتخيل أن لي والدان على قيد الحياة عكس ما فهمت طول حياتي ..لذلك كنت أبكي طول ذلك اليوم ..غضبت من مدام جوليا فواجهتها بالأمر و أنا أبكي وقلت لها لماذا لم تخبرني بالحقيقة؟ لكني اكتشفت أن ليس لها ذنب

-         و الآن؟ قالت أماني محفزه روز لتواصل الحديث فقالت روز بعد أن أشرق وجهها :

-         الآن أفضل بكثير ..لم أعد أشعر بالغضب أو الحزن ..و أحيانا يخيل لي أنهم سيأتون

-         هل جننت؟! كيف سيأتون بعد كل هذه السنين. قالت أماني باحده و هي تنقض على روز لكنها ندمت في النهاية عندما رأت علامات التعجب  على وجه الأخيرة و هي تقول:

-         لما لا؟! إن كانوا على قيد الحياة لما لا ؟

إزداد إحراج أماني برد روز الهادئ و قررت الصمت لكنها لم تستطع كتم صدى الأسئلة التي في رأسها فسألت بخجل :

-         الست غاضبه منهم لأنهم تركوك كل هذه الفترة؟

-         لا.... أقصد نعم .....في الحقيقة نوعا ما لكن من يدري ربما بحثوا عني ولم يجدوني ...ربما كانت لهم ظروف بالتأكيد هم لم يكرهونني.

-         و هل ستتركين السيدة جوليا إذا وجدوك حقا؟

قطبت روز جبينها وبعد بره من التفكير قالت:

-         أظن ذلك ..أظنها أيضا ستريد ذلك.

يال صبرها! ..فكرت أماني بينا وبين نفسها ..في الحقيقة من يرى روز يحسبها أسعد الخلق على الإطلاق. لم تشعر أماني بنفسها إلا وهي تلتفت نحو روز ..وتنظر لها بعينين يفيضان بالمحبة و الإعجاب .. طفقت تنظر إليها كأنها تريد أن تقول شيء مناسبا لها فلم تتمالك أن اغرورقت عيناها بالدمع و هي تقول:

-         روز ..حقا أتمنى لك ..السعادة أنت تستحقينها.

نبض قلب روز من الفرح فكلمات أماني النابضة من قلبها اخترقت قلب روز وتركت أثرها فيه ..ردت روز هي الأخرى من قلبها:

-         عزيزتي أماني ..أيضا أنت تستحقين أفضل شيء في الحياة ..كم أتمنى لك السعادة.

بعد ذلك صمتت الفتاتان بسعادة ..لقد كانت أماني حقا سعيدة ..روز هي أفضل شيء حدث لها منذ أن ابتعدت عن أمها .

     دخلت شجرة الميلاد ..هتف كل من في الخارج ..ثم ترتبوا صفوفا غير منتظمة خلفها و   صاروا بهذا الموكب الى أن دخلوا بها المبنى. هتفت روز عندما رأتها و طلبت من أماني اللحاق بالموكب لكن الأخيرة لم يكن لها رغبه ..لم ترغمها روز هذه المرة فدخلت  و بقيت أماني في الخارج وحدها. لم تدري أماني في هذه اللحظة هل الحديقة توسعت فجأة ...أم أن خلو الأطفال منها أكسبها مساحة إضافية فلقد شعرت بنفسها ضئيلة في هذا المكان ..شعرت بالوحشة ..ثم بالخوف و الارتباك و آثرت على نفسها الدخول حيث الناس ..و الضجيج ..و الأمان, لكنها في النهاية بقت في الخارج وستقاوم خوفها ..حاولت أن تتذكر ماذا كانت تريد أن تفعل؟ ..كان يراودها إحساس بأنها كانت تريد القيام بشيء ولكن شيء آخر قاطعها ..وبعد جهد جهيد تذكرت أمر أفكارها التي قاطعتها روز ..لقد كانت أفكار مهمة بالنسبة لها ولكنها الآن طارت و تبعثرت كتبعثر كومة أوراق أمام الريح العاتية, وبكل الجهود التي بذلتها أماني للتذكر كانت النتيجة بأن شعرت برأسها سينفجر من الصداع. أتت لفحة من ريح باردة ارتعد لها جسد أماني فبدأت تفكر بأن روعة هذا اليوم بدت بالتلاشي ..فركت أماني يديها وقربتهما من أنفها البارد و نظرت الى باب الدخول الى المبنى ..من أفضل الدخول الآن ..فكرت أماني وبالفعل كان لها أن تقف من جديد على رجليها للدخول ..ولكن في أثناء قيامها بذلك لفت نظرها شيء, كان للميتم بوابة كبيرة في مقدمته لكنها لم تكن تفتح منذ أن دخلت أماني إلى هنا لذلك اعتبرتها كديكور يزين الحديقة لكن اليوم دون الأيام كانت مفتوحة على مصراعيها. غيرت وجهتها ..وبدل بوابة المبنى وجدت نفسها أمام البوابة التي تودي إلى الشارع. كانت المباني خارج الميتم أمام عينيها كما كانت قبل دخولها المبنى ..شعرت بشوق إلى هذه المناظر ..إلى الشوارع ..المباني ..الناس, وأحست أماني بنفسها كأنها كانت في معتزل خارج العالم وهاهي تعود من جديد إلى الوطن, كل هذه الأحاسيس حزت في نفسها الشجاعة لأن تخطو خطوه عبر الباب إلى العالم الخارجي ..خطوه واحدة فقط ..ولكن كان لها تأثير السحر ..لا يجود شيء ..لا يوجد شيء يحزن ..لقد شعرت بنفسها كأنها هي نفسها قبل شهر ..لم يحدث شيء مما حدث ..وكل تلك الأحزان كانت أضغاث أحلام ذهبت لحالها و لم تترك وراءها شيء ..ثم فجأة تذكرت ذلك الفراغ الكبير في حياتها ..نظرت إلى جهة الشرق ..الى العمارة التي كانت تقطن فيها بالتحديد ..ثم إلى الشارع المقابل له ..لقد مزدحما بالخلق آخر ليلة كانت فيه ..هي نفسها الليلة التي كانت آخر مرة فيها ..و هي أيضا الليلة سبب الفراغ في حياتها. دون أن تدرك أماني كانت تبتعد عن الميتم بخطوات بطيئة و عندما لاحظت ذلك بدا لها أنها ابتعدت حقا عن الميتم و الأغرب أنها ابتعدت دون أن تلاحظ ..كأن هناك من نومها مغناطيسيا

لذلك حثت رجليها للعودة ..لكن رجليها لم تطعها ..هي لا تريد العودة ..كل ذرة في جسدها لا تريد العودة ..إنها تريد الحرية ..من يدري قد تستطيع الوصول إلى أمها ..ْأين ستكون؟ في السجن بالتأكيد ..الجميع يعرفون أين السجن يمكنها أن تسال ..ثم ستجد أمها أخيرا ..ثم سترتمي في أحضانها ولن تسمح لقوة أن تبعدهما مرة أخرى.

كان هذا الحلم يدور في ذهن أماني فدفعها للابتسام ..ولكن شحبت هذه الابتسامة عندما تذكرت أن هذا أمر مستحيل لذلك تقهقرت و هي تعود أدراجها للميتم فتفاجأت بالسيدة جوليا خارجة من المبنى ..فتخيلتها وحشا سيناديها ..وسيصرخ في وجهها ..لذلك ركضت بكل قواها عن مصدر الخطر و في أثناء ذلك توقعت صوت مدام الجوليا راعدا يناديها بإسمها ..لكن لم يكن لها ذلك! ..ثم حاولت أماني أن تلمحها بطرف عينها وعندما فعلت فوجئت ..لقد كانت مدام جوليا وافقه على عتبة باب مبنى الميتم ..و عينها على الشارع  و لم يكن كأنها تريد أن تتكبد عناء ملاحقتها ..يا إلهي ..هل تريد السيدة جوليا أن تتخلص مني!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق