الاثنين، 16 سبتمبر 2013

المفاجأة (4)


(المفاجأة (4

الشمس ليست في منتصف السماء تماما ...بل مالت نحو الغرب ..معلنه عن انتهاء نصف اليوم ..كم تكون الساعة؟ ...أقرت إلى الثاني بعد الظهر, في هذا الوقت بالضبط وقفت سيارة ميني كوبر حمراء –ا أنيقة- قرب العمارة التي كانت تقطن فيها سارة ..لقد كانت هذه السيارة لجولييت ..التي نزلت منها بسرعتها المعهودة ثم مشت بخطى ثابتة نحو المنزل .

لم تستطع جولييت أن تخفي توترها ..فلم تتحمل أن تصعد الدرج درجة ..درجة, بل درجتين ..درجتين. و أخيرا ها هو المنزل ..فتحت الباب لكنها لم تضطر لأن تدخل إلى الداخل فقد خاب أملها من أول نظرة ..لم يكن هناك شيء في مكانه ..الكراسي مقلوبة رأسا على عقب ..سجادة الأرض فوق طاولة السفرة و التي لم تسلم هي الأخرى فقد كانت أعلاها أسفلها و أسفلها أعلاها.

شعرت جولييت بأن صدرها ضاق بقلبها ..و تمنت لو أنها تستطيع الصراخ أو البكاء ..أو فعل أي شيء آخر قد يخفف عنها ..ثم سارت داخل المنزل و لكن بدون سرعتها المعهودة و اتجهت نحو غرفة سارة ..و جدت أن خزانة الملابس مبطوحة على الأرض ..و تذكرت قول سارة

 "عندما داهمتني الشرطة رميت الحقيبة التي فيها الأدلة تحت الخزانة" ..لا يبدو أنها تزال في مكانها ..هكذا قالت جولييت لنفسها و هي تولي ظهرها للخزانة ..ولكن شيء جعلها تغير رأيها فالتفتت بحده نحو الخزانة ..ما هذا؟ ..و لكن أملها خاب عندما إكتشف أنها مجرد ورقة انحشرت تحد الخزانة  .. ومن ملمسها عرفت أنها ورقة جريدة .. لم تكن بالشيء المهم و لكن جولييت قررت أن تضيع وقتها محاولة في إخراجها .. فحاولت سحبها برفق لكنها بدأت في التمزق فتوقفت في الحال ..لم تكن الخزانة خفيفة أبدا ..لكن لا بد من محاولة رفعها فشمرت جولييت عن ساعدها و بدأت في رفعها بكل قواها ..لكن دون فائدة ..فحاولت مرة أخرى فارتفعت الخزانة مليمترا واحدا وتهاوت من جديد نحو الأرض ..هل اكتفت جولييت بذلك؟ ..كلا فمن يعرف تلك الهندية العنيدة يكتشف أن من أهم سماتها الإصرار ..فكان لابد من محاولة ثالثة استخدمت فيها كل قواها ..فارتفعت الخزانة اكثر مما سبق ..و بسرعة سحبت جولييت الجريدة برجلها قبل أن تسقط الخزانة من جديد محدثة صوتا ليس خافت جدا ..و اخيرا تناولت جولييت الجريدة فاكتشفت أن في داخلها قصاصة من جريدة أخرى بزمن مختلف و أقدم من الأخرى ..فبدأت بها ...وبدأت بالعناوين لكن لم يكن هناك شيء مهم سوى عنوان واحد لاحظته من الصورته ..فقد كان في الصورة مسيو جون ديريك ..ذلك الرجل ...أبيض كالثلج .. وعينا خضراوان باهتتان ..وعندما قرأت العنوان كان كالآتي:

"حكمت المحكمة أخيرا ببراءة رجل الأعمال مسيو جون ديريك بعد أن أتهم بتهريب المخدرات لعدم كفاية الأدلة ضدة"

"يبدو أن سارة كانت مهتمة قبلا بهذا الرجل" قالت سارة في نفسها بعدما رمت الجريدة دون أن تلقي لها بالا و تصفحت الأخرى ولم تكن أهم من سابقتها و كان من أحد العناوين التي قرأتها عنوان صغير في زاوية الصفحة الثانية ..وعندما كان المقال صغيرا قررت قراءته قبل أن تخرج , لقد كان بعنوان "العنف في سجون العاصمة" . مرت على المقال سريعا ورمت الجريدة ..لكن من جديد عادت و اخذتها لتعيد قرائه المقال الأخير " ولقد كان من الحوادث الأخيرة مقتل الصحفي الشاب و يليام داماس بعد ظهور آثار التعذيب علية ..وما يزيد الأمر سوء إغلاق القضية ضد مجهول" .مسحت جولييت هذه الجملة مرار بعينيها كأنها تبحث عن شيء ..لكن لم يكن هناك شيء لذلك رمت الجريدة اخيرا بجور الأولى و خرجت من المنزل.

وصلت جولييت لسيارتها ...ونظرت للهدية الموجودة في الكرسي داخل السيارة وهي تتذكر قول سارة "أرجوك جولييت أشتري لأماني هدية من أجل العيد و أبلغيها تحياتي" ..ثم فتحت باب السيارة و اخرجت الهدية عندما قررت أن تمشي الى الميتم فلم يكن بعيد المسافة ..لاحت في ذهن جولييت و هي في طريقها على قدميها توقعات عن فرحة أماني بالهدية .. هل ستضحك؟ ..  تبكي؟ ..أو تصرخ وتقفز؟ ... حاولت جولييت جاهدة تذكر تلك الطفلة ..لكن المهمة لم تكن سهلة فقد مضى مدة منذ رؤيتها ...ولكن الشيء الذي لا تستطيع نسيانه فيها هو صمتها ..و ملاحظتها لكل شيء حولها ..بالإضافة لأنها كانت تحب الرسم ..ليس تحبه كما يحب كل الأطفال بعض الهوايات ..كلا فهي كانت تجيد ما تحبه ولكن بطريقة مختلفة ..و لاح في ذهن جولييت بعض الذكريات

"- صباح الخير سارة كيف حالك اليوم؟

- صباح الخير بخير كما ترين تفضلي إلى الداخل

و عندما دخلت وجدت أماني في الكنبة ممسكة بكراسة و يبدوا أنها انهمكت في فعل شيء ما:

- كيف حالك أماني ؟...ماذا تفعلين ؟

- أرسم ..ردت أماني دون أن تتعب نفسها للنظر إليها

- ماذا ترسمين؟

- أرسمك

تفاجأت جولييت من تلك الإجابة فردت وهي تضحك :

- رائع ..و هل يمكنني أن أرى هذه الرسمة

فنظرت أماني الى جولييت لأول مرة منذ أن اتت ..و ارتسمت على شفتيها ابتسامة لم تفهمها جولييت الى على أنها ابتسامة ماكرة و قالت:

- هل أنت متأكدة أنك تريدين رؤيتها

- أجل

- إذن انتظريني لدقائق لأضيف إليها اللمسات الأخيرة

ثم عادت من جديد منهمكة في عملها .. وسمعت جولييت صوت سارة و هي من داخل المطبخ:

- لقد جننت من رسمها ..هي مستعدة للتخلي عن كل شيء من أجل الرسم ..الأكل الشرب ..حتى أنها أهملت دروسها.

- ليس لك الحق أن تغضبي سارة ..من الجيد أن يكون لأحدهم هواية يجيدها ..كما أن أماني ليس لها أصدقاء فمن الأفضل أن تضيع وقتها في شيء مفيد.

- لكن ليس لهذه الدرجه -قالت سارة و هي تخرج من المطبخ و في يدها قدحين من القهوة و واصلت وهي تقدم إحداهما الى جولييت- هل تعلمين لقد اشتريت لها الوان زجاج الاسبوع الماضي ..و هل تعلمين على ماذا حصلت لقد أفسدت كل أطباقي الزجاجية ..لكن لن أسمح بهذه الألوان أن تدخل المنزل من جديد ..لا ألوان زجاج ..لا ألوان قماش لا غيرة.

قالت سارة وعيدها الأخير و هي تنظر الى أماني ولكن الأخير لم تأأأخذ لكلامها بالا ..ربما لعلمها بأن هذه الوعيد من أمها ليس سوى كلمات لن ترى النور على أرض الواقع . و أخيرا حانت ساعة الصفر ..فقد مدت أماني يدها و بها ورقة فعرفت جولييت أن هذه رسمتها فصرخت في حماس:

- واو أخيرا حسنا دعيني أرى . لكن الحماس اختفى من أول لحظة ..وحل بدله رعشة سرت في جسدها وقالت بعد أن تغيرت ملامحها:

- ما هذة؟!

- هذه أنت. قالتها أماني وهي تكتم ضحكاتها من ردة فعل جولييت  

و عندما اعادت جولييت النظر من جديد: حسنا إنها تبدو مثلها ..لكن فقد إذا استثنينا شعرها الذي شكلته في شكل شعلة فوق رأسها ..و تلك التجاعيد بين العينين .. و ظلال الشعر التي أحاطت بوجهها فأصبح كمستذئبة ..و بعد فترة صوبت جولييت نظرها الى أماني وقالت:

- هل أبدو لك كذلك

- ليس دائما فقط عندما تغضبين

في تلك اللحظة وقع في اذن جولييت ضحك سارة التي لم تستطع كتمه  ..فاتجهت بنظرها نحوها ..عندها قالت سارة وهي تحاول ان تبدو جادة:

- لقد أخبرتك هي مجنونة

- حسنا علي اذن الّا أغضب كثيرا. قالت جولييت ذلك وهي تعيد الورقة الى اماني و رسمت بسمة شاحبة على شفتيها"

نست جولييت نفسها مع هذه الذكريات .. ودون أن تدرك لاحظت أنها أمام بوابة الميتم ..فدخلت من البوابة الكبيرة التي كانت مفتوحة ..لم يكن هناك أحد في الخارج إلّا القليل ..لذلك لم تستهلك وقتا طويلا لكي تعرف أن أماني ليست في الحديقة ..فاتجهت نحو المبنى مباشرة ..ودخلت صالة الاستقبال وكان أول ما تواجهه هي مدام جوليا وهي تقوم بالتزيين:

- صباح الخير

-  صبح الخير ..كيف يمكنني أن أخدمك

- عذرا لقد دخلت دون اذن لكني وجدت الباب الكبير مفتوحا ..أنا أبحث عن طفلة هنا تدعى أماني ..ابنة مدام سارة

لم تستغرق جوليا وقت طويل للتذكر فردت على الحال:

- اها .. تلك الطفلة انها بالعادة لا تخرج من غرفتها ..و لكن هل لي ان أعرف من أنت؟

- أنا مودموزيل جولييت ..صديقة سارة

 آآه.. أتذكرك لقد رأيتك قبل ..اليس كذلك؟-

-  أجل لقد التقينا مرارا بواسطة مدام سارة

- حسنا اعذريني لدقائق ..سأناديها من أجلك

و ذهبت مدام جوليا .. و بقيت بعدها جولييت في انتظارها و هي تنظر الى العمال الذين يقومون بالتزيين ..ولكن بعد برهة راعها منظر مدام جوليا و هي خارجة من داخل المنزل من دون أماني ..فتقدمت نحوها وهي تقول:

- اين أماني؟

- يبدوا انها خرجت اليوم من غرفتها ..مع ان هذا ليس من عادتها ..لديها صديقة وحيدة في هذا الدار ..إنها ابنتي روز قد تكون معها.

ثم بدأت جوليا بالصراخ "روز ...روز ...ابنتي اين أنتي و بسرعة اتت طفلة كالملاك تركض نحوهما ..فسألتها مدام جوليا:

- هل رأيت أماني اليوم يا عزيزتي

- أجل لقد خرجنا معا ..ولكني دخلت وتركتها خارجا

- حسنا شكرا لك عزيزتي اذهبي الآن

و عندها انصرفت روز راكضة تماما كما اتت ..فالتفتت مدام جوليا نحو جولييت و قالت لها مطمئنة:

- اذا هي في الخارج

- لكني  بحثت عنها في الخارج و لم تكن هناك

- ربما لم تبحثي جيدا ..دعينا نبحث من جديد.

و فعلا كان لجوليا ما أرادت ..وخرجا الاثنتان تبحثان عنها ..ولكن لم تحتاجا سوى نظرة واحدة حتى يتأكد قول جولييت بأنها ليست موجودة:
- لقد أخبرتك يا مدام جوليا إنها ليست هنا

- لم نكد نخرج من المبنى دعينا نبحث جيدا

و مضت مدام جوليا تبحث في حين وقفت جولييت فجأة ..و من دون أي مقدمات هاجمت مدا جوليا بسؤال:
- هل يبقى هذا الباب على الدوام فاتحا. و أشارت بيدها نحو البوابة الكبيرة للدار؟

فجاوبتها مدام جوليا بعد أن توقفت لتواجهها:

- لا يفتح هذا الباب فقط عندما نريد أن ندخل شيئا ..وقد فتح اليوم من أجل الزينة.

- و منذ متى فتح اليوم؟

- لا أدري بالضبط ..ربما قبل ساعتان .. ثلاث ساعات ..لكن لماذا تسألين؟

لم تهتم جولييت بسؤال مدام جوليا.. بل واصلت في طرح سؤال آخر لكن بعد تردد:

- ساعتان ..اليس هذه مدة طويلة؟ ..ألا تخافين على الصغار

  - طبعا لا ..لا يوجد ما يخيف. صرخت مدام جوليا كمن يدافع عن نفسه ..و لكنها استغرقت مدة طويلة حتى فهمت معنى السؤال ..فهاجمت بسؤال آخر:

- لا أظنك تعتقدين ..

- لما لا ..

- مستحيل ..هذا لم يحدث قبلا

- حسنا هل يمكنك أن تفسري اين مكان أماني

لم يكن الافتراض في التقدير ..فكان لابد من مدام جوليا من أن تعقد المفاجأة لسانها , و أثناء بحثها عن الكلمات التي يجب ان تدافع بها عن موقفها لاح بذاكرتها صورة خيال يركض بعيدا هذا الصباح ..بعد دخول شجرة الميلاد شعرت عندما رأته برغبة جارفة كي تستوقفه ..وبسرعة أزالت مدام جوليا هذه الفكرة عن رأسها قد يكون أي شخص آخر ..لا يمكن أن تكون هي ..وحاولت أن تستجمع كل ما يمكن استجماعه من ثقة في كلماتها وهي تقول:

- مستحيل أن تهرب ..إنها كبيرة بما فيه الكفاية لكي تفهم خطورة أن تهرب

- ربما خرجت لرؤية الشارع ثم اختطفها أحدهم.

هنا نفد صبر مدام جوليا و لم تحاول ان تخفي ذلك في نبراتها وهي تقول:

- لا أدري سببا لتشاؤمك مودموزيل جولييت ..لا اظنك تتمنين لها هذا

- طبعا لا ..لكني ..لكني فقط ..
  - لا داعي لهذا الآن  نحن بالكاد بحثنا عنها هل يمكن ان توفري هذا الكلام لوقت آخر

- طبعا يمكنني. ثم لحقت جولييت بمدام جوليا لتكملة البحث.

و بعد اقل من خمس دقائق ..كانت مدام جوليا جالسة في احد كراسي الحديقة وهي تضع يديها على الرأسها و مكررة لجملة "لا أصدق هذا" ..في حين كانت جولييت تتمشى ذهاب و اياب بعصبية امام مدام جوليا ..فقد تأكدت الشكوك ..لأن أحد العمال قال لهم أنه رأى طفلة تجري مبتعدة هذا الصباح ..وللأسف كان مظهرها نفس مظهر أماني.

- كيف تسمحين لشيء مثل هذا لأن يحدث في ميتمك؟.هكذا قطعت جولييت الصمت المتوتر الذي كان يجوب في المكان . أما مدام جوليا فقد كانت منهارة كأن هناك رغبه عارمة في داخلها للبكاء ..فقالت بصوت يائس:

- كيف لي أن أعلم ..لم تكن بالكاد تخرج من غرفتها فكيف لي أعلم أنها قد تفكر في الخروج من الميتم

- يا إلهي ..ماذا سأقول لأمها ..ابنتك ضاعت بإهمال من الميتم

- أرجوك مودموزيل ..لا تحملي الميتم المسؤولية لأنه لم يفكر غيرها من الأطفال الهرب ..لقد كانت أماني غريبة في طباعها.

- حسنا ...كيف سنجدها الآن؟ .. قالت جولييت لتغير الموضوع

- لا أدري ...لا أظنها ابتعدت كثيرا علينا أن نبحث عنها في الأماكن المجاورة

- الا تعلمين أشخاص قد تذهب اليهم ..اصدقاء ..اقرباء ..أي شخص.

- لا أدري ..و لا أظن ذلك ..لقد سافرت سارة الى مارسيليا مؤخرا فتركت ابنتها عندي في هذا الميتم

تفاجأت جولييت من الجملة الأخيرة لمدام جوليا ..فأعادتها لتتأكد أنها حقا سمعتها:

- سافرت سارة الى مارسيليا مؤخرا؟

- أجل قبل عدة أسابيع

- متى بالضبط؟

قطبت مدام جوليا حاجبيها في محاولة للتذكر ..ولكن يبدو من دون فائدة فقد كان جوابها:

- لا أتذكر بالضبط ..لكن منذ مدة قريبة

- أرجوك حاولي أن تتذكري ..على الأقل الشهر

- حسنا يبدو لي أنه كان في أكتوبر ..أو نوفمبر ..أجل لقد كان في بداية نوفمبر

لم تكن مدام جوليا تكمل نطق الشهر حتى تفاجأت بجولييت وهي تطلق عدة لعنات ..ثم اتجهت نحو الخارج فجأة و هي تركض لكنها توقفت فجأة وقالت:

- أرجوك مدام جوليا ..حاولي ايجاد اماني

- أجل بالتأكيد سأحاول

ثم رحلت راكضة من جديد.

                  *                         *                      *                              *

 

 

 

 

 

الملجأ

          في تلك الأثناء كانت أماني توقفت أخيرا بعد أن لاحظت أنها لا تستطيع الجري أكثر  .. و أيضا لتحاول أن تدرك ماذا فعلت؟ .. لقد خرجت الآن من الميتم ..إن كانت فعلا فكرت في الهرب أو لا فهي قد خرجت في النهاية من الميتم ..و لن تستطيع العودة بعد أن رأت مدام جوليا و هي تسمح لها بالهرب ..هل فعلا رأتني و أنا أركض خارجا و لم تحرك ساكنا من أجلي؟ ..أم كنت أتخيل هذا الشيء فقط؟

حاولت أماني أن تعرف أين هي الآن ..بدأت بالنظر حولها ..البنيان .. الجدران لا تبدو غريبة عنها ..بل تبدو مألوفة و ظلت تتأمل فيها لحظة ..ثم انهارت على الارض و همست في نفسها:

- لا أنا لا أعرف أين أنا .جميع الحارات المجاورة متشابهه.

وفي تلك الأثناء بدأت السماء تثلج ..وهذا ما كان ينقص أماني لتدرك أنها أخطأت الفعل في خروجها ..وأن لا حل غير العودة للميتم ..ولكن كيف؟ ..كل هذا و لم تحاول أماني أن تتحرك من مكانها ..و بدأت درجة الحرارة بالهبوط .. و كل البشر من حولها حثو خطاهم لدخول منازلهم ..فشعرت بالخوف من أن تبقى وحيدة في الخارج ..لذلك أخيرا وقفت هي الأخرى .. وبدأت تحث في خطاها و هي تحاول الرجوع بنفس الطريق الذي أتت منه كأنها تريد تذكر الطريق الذي سلكته حتى تصل إلى هنا.

و لم تحاول أن تخفي خوفها من مصيرها في الميتم ..ستصرخ مدام جوليا في وجهي امام الجميع ..و ستعاقبني ولكن ذلك أفضل من البقاء في الشارع.

و بعد جهد ليس بقليل ..ها هي أماني أمام باب الميتم .. في تلك الأثناء كان اختفاء الشمس تاركة وراءها آثارها الباهتة يدل على أن الساعة في حدود الخامسة والسادسة.

لم يكن الميتم كما كان في الصباح ..فقد أضفت علية الزينة مظهرا في قمة الروعة ..لقد دخل الجميع في تلك الأثناء الى الداخل ..و كان منظرهم من النافذة عندما تطلعت عليهم أماني يدل على السعادة و الحبور .."يبدو أن الجو بالداخل دافئ" قالت أماني في نفسها عندما فقدت الشعور بأصابع يديها من شدة البرد ..كان على أماني الدخول في هذه الأثناء ..فهذا ما خطط له طوال الطريق لكن شجاعتها خذلتها فأصبحت تدور  وتدور قرب الباب و لكن دون دخوله.

و ما زادها ترددا هو منظر مدام جوليا و هي واقفة قرب الباب و نظرتها التي كانت –حسب ظن أماني- موجه نحوها دون أن تحاول إيقافها ..ربما هي سعيدة الآن بخروجي من عندها بما أنها تخلصت من عبئي ..و من جديد اتجهت أماني نحو النافذة و بحثت بعينيها عن مدام جوليا ..و عندما رأتها بدت لها سعيدة ..و حتى الأطفال لم يبدو أنهم افتقدوها ..كل هذا زاد تقهقر أماني ..وشعرت فجأة برغبة عارمة في البكاء ..ليس لها مكان تمكث فيه ..و المكان الوحيد الذي يمكنها اللجوء إليه يبدو أن ساكنيه لا يفتقدونها ..لذلك ابتعدت اماني عن الميتم و هي تتطلع علية ..لا لن تدخل ..على الأقل اليوم ..سأعود في الغد عندما يكون الجميع نائما ..سأدخل من النافذة ..أو قد أنتظر الصباح عندما يكون الجميع يلعبون ..قد لا يلاحظونني و أنا أدخل ..كل هذه المقترحات كانت تدور في ذهن أماني و هي مبتعدة ..فلا بأس بأن أنام ليلة واحدة في الشارع ..و لم يمض وقت طويل حتى بدأت في البحث عن مكان للمكوث فيه ..ولكن لابد أن يكون المكان ضيق –فمساحة أقل دفء أكثر. ويكون بعيد عن أنظار الناس –فهي لا تريد من أحد أن يظنها متسولة- ..وكان لها المكان في الشارع المقابل للميتم على بعد عدة أمتار منه ..لقد كان زقاق بين منزلين به حاوية كبيرة للنفايات .. وكانت المساحة بين الحاوية و الجدار ضيقة ظنت فيها الدفء .. ولكن لم يكن كذلك ..فلم يمض وقت طويل على بقاء أماني في هذا المكان حتى اكتشفت أن لفحات الهواء الباردة يمكنها الوصول إلى هنا ..بالإضافة إلى ذلك كانت رائحة النفايات التي بقربها ..فربما كان المبيت في منتصف الشارع كان أفضل.

انكمشت أماني حول نفسها و اغمضت عينيها ..و حاولت النوم لكن دون فائدة, و أثناء ارتجاف أماني و هي تحاول النوم تذكرت قصة ..قصة تشبهها في حالها’, عن طفلة بقت خارجا في ليلة باردة بدون دفء سوى أعواد الكبريت التي تنطفئ بسرعة ..إنها بائعة الكبريت ..إنها تشبهها الآن إذا تجاهلنا أعواد الكبريت ..و قد يكون لها نفس نهايتها ..لكن ماذا كانت النهاية؟ ..شهقت أماني عندما تذكرت النهاية ..لقد ماتت ..و لما لا تموت هي الأخرى الجو بارد بالإضافة إلى الجوع الذي يقرص أحشاءها ..توطنت هذه الفكرة في ذهن أماني و صارت الواقع الذي سيحدث رثت لحال ..ولم تقاوم البكاء فبكت ..و بأعلى صوتها ..و تخيلت أمها عندما تسمع بالخبر ..بأن طفلتها الوحيدة ماتت متجمدة في الشارع ..كان صوت نحيبها يعلو ولكن للأسف لم يكن هناك أحد يسمعها ..تذكرت الميتم ربما يمكنها الهروب من هذا المستقبل المشئوم بالرجوع إلية ..فحاولت الوقوف و لكن لم تستطع كأن جسدها كله تجمد ..ربما يكون هكذا الموت ..فقنعت بالرضا بقدرها ..ولم تحاول أن تحرك ساكنا مجددا ..استرخت جميع عضلاتها حتى الدموع توقفت من السيلان ..قد لا يكون الموت سيئا لهذه الدرجة ..قد تنتقل إلى جنة الخلد إذا ماتت. وبدون أن تبالي بالبرد الذي كان يؤرقها أسدلتا جفنا أماني و هي تغمض عينيها ثم لم تشعر بما حولها ..

- بحق الرب ..ما هذا؟

كان هذا الصوت الذي أفزع أماني ..ففتحت عيناها ..و شعرت بنبض قلبها المفزوع كأن الروح نفخت فيها من جديد.

- هل هذه قطة؟

هنا شعرت أماني بالحيوية فجأة ..فقفزت على رجلاها و واجهت مصدر الصوت ..لقد كان امرأة ..امرأة متقدمة في العمر تمسك في يدها كيس بلاستيكي خمنت أماني من لونه أنه كيس للنفايات  

- يا إلهي هذه ليست قطة ..إنها طفلة. ثم تحركت المرأة بأسرع ما يمكنها نحو أماني

- ما بك أيتها المسكينة؟ ..لماذا أنت مستلقية خارجا في هذا البرد؟ ..أين والداك؟

فتحت أماني فمها و همت بالكلام ..لكنها لم تعرف ماذا تقول فلاذت بالصمت ..لكن يبدو أن تلك المرأة لم تجد الإجابة ضرورية ..فقالت لها مباشرة وهي تضع الكيس الذي في يدها في السلّة :

- تعالي معي إلى المنزل ..ستموتين من البرد إذا بقيت هنا.

لم تتردد أماني للحظة و هي تتبعها .. ومنذ أول خطوة لها في الداخل شعرت بدفء المكان فسار كرعشة في جسدها ..و أثناء ذلك كانت المرأة ترشدها الطريق إلى أن وصلت بها إلى مائدة عامرة بكل ما لذّ وطاب فلاحظت أماني جوعها و سمعت صوت معدتها وهي تصرخ من جرّاء ذلك:

- تفضلي إلى المائدة يا صغيرتي. كان ذلك إذن من المرأة العجوز لها بالأكل و لكن برغم جوع أماني لم تمتلك أماني الجرأة لكي تمد يدها حتى دخلت المرأة إلى داخل إحدى الغرف حتى  انقضت على المائدة ..كان ذلك الطعام الذ ما ذاقت أماني في حياتها ..ليس لأنه طهي جيدا بل من شدة جوعها. لم تستطع أماني التوقف حتى سمعة صوت العجوز من خلفها يقول:

- يبدو أنك جائعة جدا

في تلك اللحظة رفعت أماني يدها عن الطعام ببطء إلى أن قالت لها من جديد:

- كلي يا عزيزتي قدر ما تستطيعين ..في العادة في كل عيد أصنع الطعام ثم أرمية لأن لا أحد يأكله.

ثم أخيرا أحست أماني بالشبع ..وشعرت بتأثير الطعام كأن تيار من الطاقة يسري فيها و كأن غشاوة كانت في عينيها و انزاحت فاستطاعت بذلك أن تلاحظ المنزل ..لقد كان جميلا لكنه بسيط ..و لاحظت شجرة الميلاد التي كانت قرب المدفأة فعلقت عليها محاولة لكسر الصمت الذي دوى في المكان:

- شجرة جميلة.

- أجل إنها جميلة ...ما اسمك أيتها الصغيرة؟

- أماني.

- و أنا اسمي كوزيت.

- شكرا لك مدام كوزيت.

- على الرحب يا عزيزتي ...لم يكن بإمكاني أن أجعلك في الخارج في هذا البرد القاتل ..لكن لماذا أنت في الخارج وحيده؟ ..أين أهلك؟

ترددت أماني ..ماذا تقول لها؟ ...هل الحقيقة أم تضيف عليها بعض التعديلات ..آثرت أماني القرار الثاني و همت بقوله ..لكن حالما فتحت فمها خرجت منها الحقيقة كاملة سجن أمها ..عيشها في الميتم ...معاملة مدام جوليا لها ..ثم أخيرا هربها..فتوقعت من السيده كوزيت بعض الأسئلة و التحقيق و لكن لم يكن كذلك ..فلم تسمح منها إلا:

- أوه ...أيتها المسكينة آسفة لأنك تحملت ذنب لم ترتكبيه.

شعرت أماني بالراحة ..وشكرت ربها لأنها قالت الحقيقة ..وظنت أن مدام كوزيت انتهت هنا ولكنا بادرتاها بسؤال آخر:

- ولكن ..أين والدك؟

تفاجأت أماني من السؤال في بادئ الأمر ..فهي قد نست أن من المفترض أن يكون لديها أب ..ولكن عندما تذكرت ذلك ردت:

- لقد توفي والدي من قبل أن أولد.

لاحظت أماني نظرات الأسى في عيني كوزيت بعد أن قالت ذلك ..و بدا لها أنها أوشكت على البكاء ولكن لم تفهم أماني لما كل هذا  ..هل فقط من أجل أن والدها توفي؟ ! ..استمر الصمت لمدة بعد ذلك نهضت كوزيت بصعوبة و اتجهت نحو المدفأة لكي تزيد الوقود فيها ..و حين ذلك بادرتها أماني بسؤال:

- هل تعيشين في هذا المنزل وحدك؟

- أجل أعيش هنا وحدي منذ خمس سنين ..بالمناسبة ..كم هو عمرك؟

- عمري إحدى عشر عاما.

- عمر جميل يالها من صدفه ..كان  من المفترض أن تكون لي حفيده في نفس العمر

- و أين هي الآن؟ سألت أماني في حماس

- لقد فقدناها منذ زمن طويل ..ثم لحق ذلك بسنتين موت والدتها أي ابنتي ..و منذ ذلك الحين و أنا أعيش وحيده . و بعد ذلك أطرقت مدام كوزيت رأسها .وكسا على وجهها علامات الحزن ..فشعرت أماني بالأسى وشعرت بأنها شخص ثقيل عليها ..أتيتها اليوم لأضايقها في منزلها و أذكرها بماضيها المؤلم ..فهمست بصوت منخفض:

- أنا آسفة حقا

لم تسمع مدام كوزيت اعتذار أماني ..لذلك قامت باعتذارها و هي تمسح آثار الدموع من عينيها:

- آسفة يا أماني ..لقد أضفت إلى أحزانك أحزاني ..هيا معي لكي أريك مكان لتقضي فيه ليلتك.

تبعتها أماني في صمت مطبق ..وصعدت معها درج ضيق ..و وجدت نفسها أمام الغرفة التي من المفترض أن تقضي ليلتها فيها ..كانت منظمة و جاهزة كأن مدام كوزيت شعرت بأن أحدهم سيأتي الليلة فبادرت تجهيزها ..قطع تفكير أماني صوت مدام كوزيت:

- يمكنك المبيت في هذه الغرفة ..و في الغد إذا أردت يمكننا أن آخذك للميتم ..تصبحين على خير.

- تصبحين على خير .. وشكرا لك. ردت أماني وهي تنظر بامتنان إلى السيدة التي انتشلتها من الموت ..فردت عليها مدام كوزيت بابتسامة ملئها الحنان.

سندت أماني ظهرها في السرير ..و شعرت براحة أحست أنها لم تشعر بها منذ زمن بعيد ..و تذكرت بداية يومها ..و كيف أن الظروف كلها تعاونت لكي توصلها إلى هنا .. والغرفة في أحسن حال كأنها في انتظارها .. ولكن شحب وجهها عندما تذكرت الغد ..في الغد سينتهي كل شيء ..ستعود إلى الميتم و ستكون هذه المغامرة كأنها حلم لم يكن ..و تذكرت كلمات مدام كوزيت "في الغد  إذا أردت يمكننا أن آخذك للميتم "  لمذا قالت إذا أردت ..أنا لا أريد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق